أصبح انتقاء الكتب القيِّمة والمفيدة مهماً جداً، خصوصاً أن الوقت المخصص للقراءة أصبح ينحسر ويضيق بسبب تعدد الوسائط المعلوماتية والتصاقها بِنَا، مثل الهاتف الذكي وما يحتويه من تطبيقات، وخصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي وما فيها من مقالات وفيديوهات، هذه كلها تقدم بجرعات قصيرة تتناسب مع عصر السرعة والرسائل القصيرة، التي عادة ما تكون أسهل وأكثر جاذبية، فنسبة تركيز الإنسان في تقلص مستمر، وصبره ونفَسه أصبحا قصيرين.
ولقد باتت مختلف الجهات تحاول أن تركب هذه الموجة، وتنجذب إلى أماكن تواجد الجماهير، بل أثَّر ذلك على محتوى الطرح، وتفاجأنا بسقوط مدوٍّ لكثير من الجهات العلمية والإعلامية والأشخاص والمشاهير، بحجة اجتذاب أكبر عدد من "اللايكات" والمشاركات، بينما صعد أيضاً كثير من المغمورين الموهوبين الذين منعتهم القنوات الرسمية وحجمت مواهبهم، فحققوا اختراقات بإمكانات بسيطة جداً.
صحيح أن الجميع تأثر بهذه التغيرات، لكن يبدو أن هذا التحدي كان أثره الأكبر على منطقتنا العربية، فحصّة الكتاب والقراءة من أوقاتنا كانت معدومة أصلاً، مقارنة بالدول الغربية، فكيف الحال الْيَوْمَ وقد ذاب الجَلَد والإصرار على التعلم من خلال الهروب إلى المقاطع القصيرة والمقالات المقتضبة وملخصات الكتب لنهل العلوم وتعلم الفنون.
تخيَّل معي ما النتائج المتوقعة في حال أُجريت دراسات جديدة عن نسبة قراءة الفرد العربي! ولقد لاحظنا أن بعض المؤلفين العرب جنحوا إلى إخراج كتبهم وكأنها شرائح "باوربوينت" حتى يجذبوا القارئ العربي (اللي روحه مفرفطة أو ما له خُلْق كما يقال بالعامية)! ويسألك أحدهم أحياناً عندما تذكر له كتاباً أن تلخصه له في تلك الجلسة بكلمات!
للأسف لا يوجد عند كاتب هذه السطور أي حل سحري، فلا أعتقد أن أياً منّا قد سلِم منذ اندلاع معارك التواصل الاجتماعي وسيطرتها على العقول والقلوب، وقد لاحظت تأثُّر كمية قراءاتي اليومية للكتب سلباً، لكن بالتأكيد الموضوع بحاجة إلى مثابرة وشخصية قوية تضبط السلوك وتقمع السعادة الآنية، مقابل الثراء والمتعة المعرفية على المدى الأبعد، ولعل النصيحة الذهبية هي أن نخصص وقتاً "مقدساً" بشكل يومي، ولو بدأنا على الأقل نصف ساعة قبل النوم مثلاً للقراءة، بعد أن نكون قد أطفأنا "الموبايل" وتركناه في الصالة، وإذا تمكنا من شراء جهاز أمازون لقراءة الكتب (كندل) من نوع paper white مثلاً سيكون ذلك مثالياً؛ لأن ضوءه فيه، فلن تزعج من ينام في الغرفة معك. ولا أبالغ إن قلت إن أفضل شيء اشتريته في حياتي كان جهاز الكندل، فهو مكتبة متنقلة وبوابة على ملايين الكتب، يمكنك الولوج إليها بكبسة زر واحدة.
ولا شك في أن تهيئة المكان المناسب في البيت، واختيار المناسب من الكتب، ومصاحبة من يقرأ أو يهتم ويناقش معك ما تقرأ، في البيت والعمل لها دور كبير أيضاً. أضِف إلى ذلك أن اغتنام الأوقات الضائعة بين المناسبات وانتظار المواعيد وخلال السّفر لَمكسب كبير، وربما خير من تصفح الموبايل وانتظار المزيد من "النيوزفيد"!
القراءة الحقيقية والعميقة بحاجة إلى استثمار من أوقاتنا، وتوفير بيئة هادئة لنقرأ ثم نتأمل ثم نعمل، ونعيد الكرّة باستمرار، وذلك لا يكون بمزاج السرعة السائد وعالم الإبهار والتسلية، فالقراءة هي مَن أنجبت العباقرة والناجحين، ليس فقط على الرفوف، بل في الأعمال أيضاً، فمثلاً بيل غيتس وإيلون ماسك، وغيرهما كانوا من القارئين للكتب بشكل غزير منذ نعومة أظافرهم، ورغم انشغالهم بعد نجاحاتهم فإنهم ما زالوا يقرأون بشراهة وشغف كبير، وكذلك أجدادنا كالجاحظ والجوزي وغيرهما.
فحريّ بِنَا أن نزرع حبَّ القراءة والكتب، ورقية أم إلكترونية، في نفوس أطفالنا، لعلنا نصنع جيلاً جديداً متمكناً وقادراً على مواجهة التحديات وبناء مستقبل مزدهر.
تقدَّمت الأمم وتصدَّرت من خلال الاستفادة من كنوز العلوم والقراءة، والكتابة أحد مفاتيحها الهامة.
ويذكر أن الفيلسوف المشهور فولتير عندما سُئل عمن سيقود الجنس البشري، أجاب: "الذين يعرفون كيف يقرأون ويكتبون"، واليوم رغم أن نسبة الأمية عالية في الوطن العربي، فإن المشكلة الكبيرة أن كثيراً ممن يعرفون القراءة والكتابة لا يقرأون ولا يكتبون، رغم أننا كما يقولون أمة "اقرأ"!
المقال منشور على هافنجتون بوست هنا
تعليقات
إرسال تعليق